الصفقة في القرآن
ما أعظم تضحيات النبي صلى الله عليه وسلم! ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.. لقد بذل صلى الله عليه وسلم وبذل أصحابه النفس والمال والوقت والحياة في سبيل الله تعالى. ولقد أبرموا صفقة التضحية, فكانت التجارة الرابحة, وكانت الجائزة الجزيلة والجنة العالية, قال الله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
لقد عاشوا معاني التضحية في كل حركاتهم وسكناتهم, في سبيل الله, وبذلوا الجهد الجهيد, والوقت الثمين, في سبيل الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً ...} [التوبة120].
واختاروا السلاح على اللقاح, والجياد على الأولاد, ولم تشغلهم أعباء البيت عن الجهاد, ولم تشغلهم الأموال والأعمال عن الخروج في سبيل الله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة: 24].
مضاربون في المال!
وكان منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي بذل كل ماله للدعوة الإسلامية, فلما سأله النبي – صلى الله عليه وسلم: "مَا أَبْقَيْتَ لأهْلِكَ", قال بثقة المؤمن: "أبقيت لهم الله ورسوله". [ أبو داود: 1429, وحسنه الألباني].
وكان منهم أبو الدحداح الذي تصدق بحديقة - أو مزرعة - في سبيل الله, لما سمع قول الله تعالى: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [البقرة:245] فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبشرًا:
" كم من عذق دواح لأبي الدحداح في الجنة " [مرارا ] [ أحمد: 12025, وهو في السلسلة الصحيحة برقم 2964 ] .
وكان منهم صهيب الرومي, وقد كان يعمل في التجارة أيام مكة, فلما أراد الهجرة ليلحق بالمسلمين في المدينة, حبسه المشركون وخيروه؛ بين أن يهاجر ويترك المال, أو يظل في مكة وتبقى له الثروة, فاختار الله وخلف المال, رخيصًا في سبيل الله . فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال مزكيًا: " أبا يحيى, ربح البيع" وتلا عليه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] [ الحاكم: 5729].
مضاربون في أرواحهم
لقد كانت تضحيات النبي – صلى الله عليه وسلم – كبيرة جدًا, وعظيمة جدًا .. ولقد ضرب الصحابة المثل في هذا الميدان يوم أُحد [السبت 15 شوال 3 هـ - 30 مارس 625 م], فرسموا أروع لوحات التضحية بالنفس, وإليك هذه اللوحات:
لوحة أنس بن النضر:
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدرًا, فشق عليه, فأقسم قائلاً: "لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليرين الله ما أصنع". [ابن كثير ( السيرة ): 3/62].
فلما كانت أحد, حيث انهزم المسلمون, وأُشيع زعم مقتل النبي صلى الله عليه وسلم, فإذ بأنس رضي الله عنه يشق الصفوف شقًا, ويضرب الرؤوس ضربًا, ويفلق الهامات فلقًا, وهو يقول: "واها لريح الجنة! أجده دون أحد"., فثبَّت المسلمين, وقاتل المشركين حتى قُتل, فوُجد في جسده بضع وثمانون من طعنة ورمية ولكمة.
قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه.
وفيه نزل قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}. [ انظر: ابن كثير ( السيرة ) 3/62].
فضحّى أنس, ومضى إلى ربه..
لوحة مصعب بن عمير
أما مصعب ذلك الشاب الذي ترك نعيم الدنيا, وقد كان أنعم الشباب في قريش, وقد كان يُضرب به المثال في جمال الملبس, وفخر الحُلة, وزهو الطيب, فقاتل في أُحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُتل وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدًا . فلما قُتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب, وبعد المعركة, لم يجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمصعب ثوبًا يستره كاملاً يكفنه به. [انظر: ابن هشام 2/73]
قال عبد الرحمن بن عوف: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني, كُفّن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه, وإن غُطي رجلاه بدا رأسه, وأراه.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإذْخِرَ". [البخاري:3773].
فضحى مصعب ومضى إلى ربه..
لوحة الحمزة
وهذا حمزة عم النبي – صلى الله عليه وسلم - الذي طالما وقف في وجه طغاة قريش, وهاجر, ونافح, وقاتل في بدر, فكان أسد الله, حتى إذا كانت أحد؛ فقاتل فقُتل فكان سيد الشهداء, ولقد مثَّل بجثمانه المشركون تمثيلاً بشعًا, وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يتفقد القتلى, ويلتمس حمزة بن عبد المطلب, فوجده قد بُقر بطنه عن كبده, ومُثَّل به فجُدع أنفه وأذناه وحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – حزنًا شديدًا, وأرسل عليه العبرات الزفرات وقال: {لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِك أَبَدًا!! مَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطّ, أَغْيَظَ إلَيّ مِنْ هَذَا!!}[ ابن هشام 2/94].
لقد ضحى أسد الله ومضى إلى ربه..
لوحة سعد بن الربيع
ويتفقد رسول الله القتلى, ويفتقد سعد بن الربيع, فلا يجده, فيقول: "مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ؟ أَفِي الأحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأمْوَاتِ؟"..
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنصار: أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَعَلَ سَعْدٌ, فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ أَفِي الأحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأمْوَاتِ؟ قَالَ: أَنَا فِي الأمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنّي السّلَامَ, وَقُلْ لَهُ إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَك: جَزَاك اللّهُ عَنّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّا عَنْ أُمّتِهِ ! وَأَبْلِغْ قَوْمَك عَنّي السلام وَقُلْ لَهُمْ: إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ إنّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ إنْ خَلُصَ إلَى نَبِيّكُمْ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ!
قَالَ: ثُمّ لَمْ أَبْرَحْ حَتّى مَاتَ [ انظر: ابن هشام 2/94].
التضحية ضريبة الحضارات
هل سمعتَ بدعوة قامت لها قائمة دون تضحية؟ وهل رأيت حضارة ظاهرة بغير تضحيات؟ وهل خطر ببالك أن تبني مجدًا لدينك دون أن تلعق الصبر؟
لا..
فلا قوام للدعوة الإسلامية بغير تضحية, ولا سبيل إلى رضوان الله وجنته دون تضحية, قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:214].
التضحية أو الفسق!
وإن الذين لا يضحون من أجل الله, ولا يبذلون المال والجهد والوقت من أجل دعوته, وانغمسوا في الحرص الدنيء, والشره السافل, هم أناس حكم الله تعالى عليهم بالفسق, قال الله تعالى في ذلك: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة: 24].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاً لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" [ أبو داود, 3003, عن ابن عمر, وهو في السلسلة الصحيحة برقم 11].
قال صاحب الظلال: "إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإما تجرد لها, وإما انسلاخ منها, وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب, ويخلص لها الحب, وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة, وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة". [ الظلال 3/1615].
التضحية أو الفسق! أن يُمكن للحق أو يسيطر الباطل, وبغير التضحية, يظهر اللص, ويقود الظلوم, ويسود الغشوم, أولائك الذين لا يتركون, حقًا ولا خُلقًا, ولاخفًا ولا حافرًا, ولا صادحًا ولا باغمًا, ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْا عليه. وكانت شغلتهم نشر الفقر المُدْقع, والذل المُضْرع, ولن يزول سلطان هؤلاء إلا بتضحيات الشرفاء, أحرار النفوس, أُباة الضَّيم..
وهل من شبه بين من نام عن الحق ومن ارتْصَد له, يدفع عنه؟
وما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب!
التضحية لا تضيع أبدًا
وليعلم المسلم أن ما بذله في سبيل الله لا يضيع, فإن بذل النفس فقد حاز الجنة دون سابقة عذاب, وإن بذل مالاً فالله يخلفه وهو خير الرازقين, وإن بذل الوقت بُورك له في العمر, وإن بذل الحياة.........................!
قال الله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157].
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [ سبأ:39]
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120].
وما قط.. بارت تجارة المجاهدين!
وأوصيك أخي:
1- أن تدع الله أن يرزقك الشهادة وأن توطن نفسك لها, فالموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
2- أن تخرج سهمًا من دخلك المالي – السنوي أو الشهري أو اليومي – في سبيل الله, فتخدم به الدعوة الإسلامية, فالذين كفروا ينفقون أموالهم – بسخاء - ليصدون عن سبيل الله, فلا أقل من أن تخصص لدعوة الله سهمًا من مالك.
3- أن تبذل من وقتك لوقت الدعوة الإسلامية, فتسهم في إتمام فعالية إسلامية, أو إخراج عمل دعوي, أو المشاركة في نشاط توعوي.
4- امض في طريق الله, لا تثاقل إلى الأرض, امض كما تمضي الشمس بأشعتها, على السهول والحزون والنجاد والوهاد.. لا تبال بالعقبات ألا تدفعك للتضحية - أنَّات الثكالى, ورَناتُ اليتامى.
___________________
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, والمشرف العام على موقع نبي الرحمة, ومستشار لموقع إسلام أون لاين في النطاق الشرعي.